من مذكرات شارلي شابلن (1): الصعلوك





 بقلم: شارلي شابلن
ترجمة: صلاح حافظ

كان صوتها مصدر متاعب لها. فهو لم يكن قويًا. وأقل إصابة بالبرد كانت تسبب لها التهابًا في الحنجرة يدوم عدة أسابيع. ولكنها كانت مرغمة على أن تواصل العمل مما جعل صوتها يسوء باضطراد، ولم يعد في استطاعتها أن تطمئن إليه فهو يخذلها أثناء الغناء ويتشرخ، أو يختفي فجأة ويتحول إلى همس، فيضحك الجمهور ساخرًا ويشرع في الصفير.
  
[...]

كانت عادة تصحبني إلى المسرح كل ليلة حتى لا تتركني وحدي في الغرفة المؤجرة. وكانت في ذلك الوقت تمثل في استعراض (الكانتين) بمسرح (الدرشوت) .. وهو مسرح وضيع شديد القذارة، يروق للجنود، وكان جمهورًا صاخبًا ينتحل أقل المبررات ليسخر يهزأ، فكان أسبوع العمل في "الدرشوت" يعد بالنسبة للممثلين أسبوعًا من الرعب..
  
وأذكر أنني كنت واقفًا في الكواليس في تلك الليلة عندما خان أمي صوتها وتحول إلى همسة خافتة، فبدأ الجمهور يضحك ويمأمئ كالمعيز، ويموء كالقطط. وكان الأمر يبدو غامضًا بالنسبة لي، وأنا لا أفهم بالضبط ما هذا الذي يحدث. ولكن الضجة ظلت تتزايد حتى أرغمت أمي على مغادرة المسرح. وعندما وصلت إلى الكواليس كانت شديدة الاضطراب، ونشب جدل بينها وبين مدير المسرح الذي قال شيئًا عن إدخالي إلى المسرح لأحل محلها وكان قد رآني قبل ذلك أمثل أماما أصدقائها ..
 
وأذكر أنه في حالة الارتباك السائدة قادني من يدي إلى الداخل، وبعد أن قدم تفسيرًا موجزًا في كلمات قليلة إلى الجمهور تركني وحدي على المسرح، وأمام أضواء المنصة التي تخطف البصر والوجوه التي تسبح في الدخان، بدأت أغني بمصاحبة الفرقة الموسيقية التي تعثرت بعض الوقت قبل أن تعثر على "المقام" الملائم لي. وكانت أغنية ذائعة الصيت اسمها "جاك جونس" [...]


وبينما أنا في منتصف الأغنية تدفق على المسرح سيل من قطع النقود، فتوقفت على الفور وأعلنت أنني سأجمع النقود أولا ثم أغني بعد ذلك.. فأثار هذا ضحكات صاخبة. وجاء مدير المسرح بمنديل في يده يساعدني في جمعها. فخطر ببالي أنه سيحتفظ بها لنفسه. وانتقل هذا الخاطر إلى الجمهور فزادت الضحكات، خاصة عندما خرج الرجل من المسرح وأنا ألاحقه. ولم أعد لأواصل الغناء إلا بعد أن سلم النقود لأمي. وكنت أتصرف تمامًا كأنني في البيت. وتحدثت إلى الجمهور، ورقصت، وقلدت كثيرين بما في ذلك أمي في نشيدها الأيرلندي [...]

  
وفي براءة تمامًا – وأنا أردد المذهب- قلدت صوتها وهو يتشرخ! وأذهلني الأثر الذي أحدثه ذلك في الجمهور. كانت هناك ضحكات، وهتافات، ثم مزيد من القذف بالنقود. وعندما دخلت أمي على المسرح لتأخذني، أثار ظهورها عاصفة هائلة من التصفيق. وكانت هذه الليلة أول مرة أظهر فيها على المسرح، وآخر مرة تظهر فيها أمي.
  
*** *** ***

وحدث أثناء هذا الأسبوع أن كان رجل وصديقه على موعد مع فتاتين في ساعة متأخرة من الليل، فقادتهما أقدامهما – لمجرد قتل الوقت- إلى موزيكهول وليم موريس، حيث تصادف أن شاهدا عرضنا. وعلق أحدهما قائلًا: 

-          لو صرت ذات يوم من كبار رجال الأعمال، لكان هذا الفتى ممن أحب أن أتعاقد معهم.

وكان يشير إلى أدائي لدور المخمور في "ليلة في الموزيكهول الإنجليزي". وكان هو في ذلك الوقت يعمل كومبارس عند د. و. جريفيت "المخرج الكبير" في شركة بيوجراف، ويتقاضى خمسة دولارات في اليوم.
  
هذا الرجل هو "ماك سينيت". الذي أنشأ فيما بعد شركة أفلام "كيستون".
  
*** *** ***

كان سينيت غائبًا في تصوير خارجي مع مابل فورماند وكذلك كانت مجموع فورد سترلنج. فلم يكن في الاستوديو أحد تقريبًا. وكان هنري ليمان – المخرج الأول في شركة كيستون بعد سينيت- سيبدأ تصوير فيلم جديد، ويريدني أن أمثل دور مخبر صحفي. وكان ليرمان رجلا مغرورًا، معتزًا بأنه أخرج عدة أفام ناجحة ذات طبيعة آلية. فكان ... وإنه ينتزع كل ضحكاته بالمؤثرات الحركية وتقطيع الفيلم.
  
ولم تكن لدينا قصة. فالفيلم كان مفروضًا أن يكون فيلمًا تسجيليًا عن مطابع الصحف، مُحلى ببعض اللمسات الكوميدية. وارتديت بدلة غالية وشاربًا رفيعًا متدليًا. وعندما بدأنا العمل لاحظت أن ليرمان يتلمس الأفكار. ولما كنت جديدًا في كيستون، فقد كنت بالطبع متلهفًا إلى تقديم الاقتراحات، ومن هنا نشأ التصادم بيني وبين ليرمان. ففي منظر أقوم فيه بإجراء حديث مع محرر إحدى الصحف أضفت من عندي كافة "التصرفات" التي خطرت على بالي، وتماديت إلى حد اقتراح تصرفات لباقي الممثلين. ومع أننا فرغنا من الفيلم في ثلاثة أيام، فإننا -في اعتقادي- نجحنا في تزويده بعدد من التصرفات المضحكة جدًا. ولكنني عندما رأيت الفيلم في صورته النهائية أحسست بقلبي يتمزق .. إذ وجدت أن "المونتيير" قد ذبحه وغير معالمه، منتزعًا منه كافة التصرفات المضحكة. وتملكتني الحيرة وأنا أتساءل لماذا فعلوا ذلك. وبعد سنوات من هذه الحادثة اعترف ليرمان أنه فعل ذلك عمدًا، لأنه على حد تعبيره – رأي أنني أعرف أكثر مما يجب.
 
وعاد سينيت من التصوير الخارجي  بعد أن انتهى عملي مع ليرمان بيوم واحد. وكان فورد سترلنج يعمل في أحد المناظر، [...] وكنت في تلك اللحظة بثياب العادية وليس لدي ما أفعله، فوقفت حيث يستطيع سينيت أن يراني. وكان عندئذٍ واقفًا في مابل، يتأمل منظرًا يمثل ردهة فندق ويعض طرف السيجار الذي في فمه ويقول:

-          إننا نحتاج إلى بعض التصرفات هنا،
ثم تحول إلي قائلًا:

-          ضع أي مكياج مضحك .. أي شيء يخطر ببالك ...

ولم تكن لديَّ عندئذٍ أدنى فكرة عن صورة الماكياج الذي يحسن أن أضعه. ولم أكن مرتاحًا إلى الصورة التي ظهرت بها كمخبر صحفي. على أنني في طريقي إلى غرفة الملابس خطر ببالي أن أرتدي بنطلونًا منتفخًا، وحذاءً ضخمًا، وعصا وقبعة "دربي". فالبنطلون منتفخ والجاكتة ضيقة، والقبعة صغيرة والحذاء ضخم. وترددت في البداية هل أبدو صغيرًا أم كبيرًا في السن. ولكني عندما تذكرت أن سينيت كان يتوقع أن أكون أكبر مما آنا، أضقت شاربًا صغيرًا راعيت أن يزيد من سني دون أن يخفي تعبيرات ملامحي.
  
ولم تكن لدي أيضًا أدنى فكرة عن الشخصية التي سأظهر بها. ولكنني في اللحظة التي فرغت فيها من إعداد نفسي، أوحت إلي الثياب والمكياج بطبيعة  هذا الشخص الذي سأمثله، وبدأت أعرفه وما كدت أصل إلى البلاتوه حتى كان قد ولد. فلما واجهت سينيت تقمصت الشخصية، ومضيت أمشي متخايلًا، وعصاي تتأرجح في يدي، عارضًا نفسي أمامه ... بينما رأسي تتزاحم وتتددفق فيه التصرفات والأفكار المضحكة...
  
وكان سر نجاح ماك سينيت هو حماسه. فقد كان هو نفسه متفرجًا ممتازًا، يضحك من أعماقه لكل ما يراه طريفًا. وهكذا وقف وهو يتفرج علي – حتى اهتز بدنه كله. وشجعني ذلك فبدأت أشرح له الشخصية:
  
-          إنه كما تعلم رجل ذو جوانب متعددة. فهو أفاق، مهذب، وشاعر، وحالم، وهو وحيد في الحياة، لكنه يأمل أن يحب، ويغامر. وهو يستطيع أن يوهمك أنه عالم، أو موسيقي، أو دوق، أو لاعب بولو. ومع ذلك فهو لا يتعفف عن التقاط أعقاب السجائر أو خطف الحلوى من الأطفال. ومن الممكن بالطبع – إذا اقتضت الظروف- أن يضرب امرأة بالشلوت .. ولكنه لا يفعل ذلك إلا في أقصى حالات غضبه!

*** *** ***

عشر دقائق وأنا مسترسل في الوصف بهذه الطريقة وسينيت لا يكف عن الضحك. وأخيرًا قال:

-          عظيم.. ادخل المنظر ولنر ماذا يمكنك أن تفعل، وكما كان الحال في فيلم ليرمان لم أكن أعرف عن القصة إلا أنها حول مشكلة تجمع بين مابل نورمان وزوجها، وعشيق.

وفي كافة الأعمال الكوميدية لا يوجد ما هو أهم من اختيار "السلوك". ولكن ليس من السهل دائمًا انتقاد هذا السلوك. على أنني وأنا أجتاز ردهة الفندق شعرت بأنني رجل مدع يتظاهر بأنه واحد من الضيوف، ولكنه في الحقيقة أفاق بلا مأوى. فلما دخلت تعثرت في ساق إحدى السيدات، وتحولت إليها معتذرًا برفع قبعتي.. ثم تحولت وتعثرت مرة أخرى في إحدى قطع الأثاث، فنظرت  إلى قطعة الأثاث ورفعت لها أيضًا قبعتي وبدأ الواقفون وراء الكاميرا يضحكون.
  
وتجمع زحام كبير هناك، لا من ممثلي الفرق الأخرى -الذين تركوا عملهم للفرجة علينا- وحدهم، وإنما أيضًا من مساعدي البلاتوه، والنجارين، وقسم الملابس فكان هذا إطراء لا شك فيه.
  
وعندما انتهت البروفة كان قد تجمع جمهور كبير يضحك. وسرعان ما لمحت فورد سترلنج يسترق النظر من فوق أكتاف الآخرين .. وعرفت عندئذ أني أجدت ..
  
وعندما ذهبت إلى غرفة الملابس في نهاية اليوم وجدت هناك فورد سترلنج وروسكو أرباكل يزيلون الماكياج. ولم نتبادل إلا حديثًا عاديًا، ولكن الجو كان مشحونًا بتيارات تحتية. ومع أن كلاهما أبدى الإعجاب بي، إلا أنني أحسست بوضوح أنهما يعانيان صراعًا داخليًا..
  
كان المنظر الذي صورناه طويلا، يبلغ خمسًا وسبعين قدمًا.. فنشب الجدل فيما بعد بين سينيت وليرمان حول إمكان عرضه كاملًا، إذ كان المعتاد ألا يزيد طول المشهد الكوميدي في المتوسط عن عشر أقدام.

وقلت لهما:

-          إذا كان طريفًا ومضحكًا .. فما أهمية الطول؟

فقررا عرضه كاملا..

ولما كانت ثيابي قد شحنتني تمامًا بروح الشخصية التي مثلتها، فقد قررت عندئذٍ، وفي نفس اللحظة والمكان، أن ألتزمها من الآن فصاعدًا .. ومهما حدث.

وفي ذلك المساء عدت إلى البيت في عربة الترام بصحبة أحد ممثلي الأدورا الصغيرة .. فقال لي:

-          اسمع لقد بدأت شيئًا جديدًا! فما من أحد قبل ذلك انتزع مثل هذه الضحكات أثناء التصوير، ولا حتى فورد سترلنج. وآه لو رأيت وجهه وهو يتفرج عليك. كان شيئًا يستحق التأمل!

فقلت محاولًا أن أكبت غبطتي الشديدة:

-          فنأمل أن يضحك الجمهور بنفس الطريقة في السينما.
  
*** *** ***

كانت الشخصية التي ابتدعتها مختلفة تمامًا، وغير مألوفة عند المتفرج الأمريكي – بل وعندي أنا شخصيًا.

ولكنني في ملابس التمثيل أشعر أنها حقيقة، وأنها شخص حي موجود. والواقع أن هذا الشخص كان يستثير عندي كافة ألوان الأفكار الخرقاء التي ما كانت تخطر على بالي إلا بعد أن أرتدي ملابس وماكياج "الأفاق"..
  
وانعقدت صداقة قوية بيني وبين أحد ممثلي الأدوار الصغيرة. فكان يزودني كل ليلة – ونحن عائدان في عربة الركاب- بنشرة إخبارية عن رد فعل الاستوديو أثناء النهار، وما دار من أحاديث حول أفكاري الكوميدية: "كان تصرفًا رائعًا غمس أصابعك في إناء غسل الأيدي ثم تنشيفها في لحية الرجل العجوز، إنهم لم يروا مثل هذه الأشياء قبل ذلك أبدًا.." وهكذا يستطرد إلى أن يجعلني أمشي على السحاب. 

المصدر: 
مذكرات شارلي شابلن
ترجمة: صلاح حافظ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

ألبرت أينشتاين وميليفا ماريتش: قصة حب (اقتباس)

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات